• ٤ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ/ج18

نــزار حيدر

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ/ج18

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ}.

إنّ المستشار الذي ترتعد فرائصهُ في حضرة (القائد الضّرورة) عندما يهمُّ بالإدلاء برأيهِ، لا تنتظر منه رأياً حصيفاً ابداً، ولا تثق بحسنِ ما يعرضهُ، فمثلُ هذا المستشار لا يفكّر بالتّعارض مع توجّهات الزّعيم ابداً.

انّهُ عادةً يقرأ أفكارهُ من نظراتهِ وحركاتهِ ثمّ يعيدُها له بصِيَغ وقوالب الوانُها زاهية واشكالُها جميلة!.

انّهُ يستنسخ افكارهُ ويُعيدها عليه!.

ولذلك أوصى رسول الله (ص) أمير المؤمنين (ع) من بين مَن لا يستشيرهم بقوله: {يا عليّ لا تُشاور جباناً فانّهُ يُضيّق عليكَ المخرج}.

كما أوصى أَميرُ المؤمنين (ع) مالكاً بالشّيء نَفْسَهُ بقولهِ في عهدهِ اليه عندما ولّاه مصر {وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ... جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الاْمُورِ}.

ينبغي أن يكونَ المستشارُ شجاعاً ليقولَ رأيهُ بشجاعةٍ وحرّيّة بعيداً عن ايّ نوعٍ من انواع الرّهبة والخوف والتردّد، خاصَّةً عندما يحتاجُ الموقفِ الى استشارةٍ جريئةٍ فيها شيءٌ من المغامرة، سواء لمعالجة الموقف ذاتهُ او للتعارض مع توجهات المُستَشير..

ينبغي ان يكونَ المستشارُ كهدهدِ سُليمان لا يخاف اذا سُئل، حتى اذا كانَ جوابهُ صادماً او شاذّاً طبقاً لحسابات الواقع، ولا يَكُونُ كذلك إلّا اذا كان واثقاً من خبرهِ او رأيهِ، فالشاكُّ في دقّة ما ينقلهُ يتردّد بطبعهِ في الإدلاء به، ولما كان الهُدهد واثقاً من معلومتهِ لذلك نقلها بكلِّ أمانةٍ وشجاعةٍ، قائلاً {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.

وما كان الهُدهد ليجرؤ على ذلك لو لم يكن متيقّناً من أنّ نبيّ الله سُليمان (ع) يُحبُّ الصّراحة والوضوح وشجاعة المستشار، فَلَو كان نّوع الزّعماء الذين يُحبُّون المتملّقين لأخفى عَنْهُ الهدهد النّبأ مهما كان خطيراً.

إمّا من جانب المُستَشير فالواجبُ عليه أن لا يستعجل إصدار الحكم على ما يسمعهُ من المستشار فيشكّك بالمعلومة قبل التثبّت ويردّ الرّأي قبل المناقشة، مهما كان الخبرُ صادماً والرّأي غريباً على مسامعهِ! فان ذلك يخلق جواً من الرّهبة والخوف يُساهم في قمع حريّة التّفكير والتّعبير، ولا يساعد في تكريسهما عند المستشارين، ففي قصّة الهُدهد فعلى الرّغم من أنّ نبيّ الله سليمان (ع) آتاه الله من الملك ما لم بأتِ أحداً من العالمين وسخّر له كلّ ما يسهّل عليه الحصول على المعلومة والرأي وغير ذلك من طيرٍ وريحٍ وجنٍّ وكلّ شيء، فضلاً عن الوحي كونهُ نبيُّ من أَنبياء، مع كلّ هذا الا انّهُ استوعب قول الهُدهد ولم يثُر بوجههِ فيكذّبهُ او يعذّبهُ مثلاً او يردّهُ او يعاقبهُ لقوّة عباراتهِ، بل ردَّ عليهِ بالقولِ {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.

حتّى لغة التّشكيك بين المستشار والمستشير ستتلاشى شيئاً فشيئاً مع التّجربة، او هكذا يجب ان يكون، فاذا ثبُت للثّاني قوّة رأي الأوّل ودقّة اخبارهِ مع مرور الوقت، ونجحَ الأوّل في إثباتِ قدرةٍ فائقةٍ على حسن استشاراتهِ بالخبرةِ المتراكمة.

إنّ التّشجيع والحثّ الذي يمارسهُ المُستَشير مع المستشار يساعد كثيراً على خلق الأجواء المناسبة لتكريس ثقافة الشّورى، ولعلّ في قصّة ملكة سبأ والعلاقة الإيجابية المتبادلة بينها وبين [الملأ] وحثّها لهم على التّشاور قبل القطع بالقرار، هو الذي نجّا مملكتها من حربٍ مدمّرة مثلاً فبقولها لهم {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ} حثّ الملأُ على ان يفكّروا بعقلانيةٍ أَكبر ويُشيروا عليها برأيٍ معتدل ما هدّأ من روعِها ولذلك لم تتهوّر في قرارها أَو تتطرف في رأيها، بل تعاملت مع كتابِ نبيّ الله سُليمان (ع) بكلّ حكمةٍ وحصافةٍ حمت فيها مُلكها ومملكتها.

لقد قدّم الملأُ في هذه القصّة نموذجاً جيداً للمستشار المؤتمن الذي يأخذ بنظر الاعتبار الواقع ويذكّر المسؤول بنقاط القوّة التي يمتلكها ولكنّهُ في نفس الوقت لا تعمي قوّتهُ بصيرتهُ، فما تقول الحكمة، فانّ القوّة بلا عقلٍ او حكمة تهوّر، فليست القوّة هي التي تنتصر، وانّما العقل والحكمة المدعومة بالقوّة، ولقد وردت هذه الحقيقة في قولهِ تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

يَقُولُ القرآن الكريم متحدّثاً عن تفاصيل قصّة الملأ مع الملكة: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ* قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.

إنّ قولاً حقيقيّاً ورأياً واقعيّاً قدّمهُ الملأ للملكة نزع فتيل الحرب ولغة التهوّر والاستعلاء والاعتداد بالنّفس على حساب تحقيق الصّالح العام، ولو كان أَحدهم قد صعّد الموقف ولو بحرفٍ لانتهى قرار الملكة الى حربٍ تدمّر المملكة ومصالح شعبها كما تخيّلتها في ذهنها {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ}.

ومن هنا تتبيّن أَهمّية المستشار في دقّة ما يستحضرهُ من رأيٍ ليس على مستوى الفكرة فقط وانّما حتّى على مستوى الأسلوب والطّريقة التي يُدلي بها رأيهُ، فكلمةٌ حكيمةٌ من مُستشارٍ تُطفئ نارَ حربٍ عبثيّةٍ، وكملةٍ حمقاءَ مِنْهُ تصبُّ الزّيتَ على نَارٍ تكادُ ان تشتعِل.

واذا تفقّدنا حالنا اليوم وما يحيطُ بهِ من حروبٍ عبثيّةٍ لتيقّنّا انّ الحمقى هُمُ الذين يُشيرون على الزّعماء الذين ليس منهم {رَجُلٌ رَّشِيدٌ}!.

واذا قارنّا بين ملأ الملكة وبين ما عندنا اليوم من مستشارين يتحلّقون حول الزّعماء لتيقنّا بأننا لا نمتلك مستشارين وانّما هم عبارةً عن حفنةٍ من الابواق همّها إثارة الفِتن وشحن الأجواء بكلّ ما يُثير النّعرات الطّائفية والعنصريّة والمناطقيّة والحزبيّة الضيّقة، وكلّ ما يقود الى الفساد وينتهي الى الفشل!.

انّهم من أهمّ عوامل الإِثارات السلبيّة التي تملأ الأجواء اليوم، ولذلك ينبغي فضحهُم لإبعادهم عن المسؤول، ايّ مسؤول، واذا شعرنا بأَنّ الاخير مستأنِس لوجودهم الى جنبهِ فيجب فضحهُ هو الآخر، فإلى متى يُتاجر الزّعماء بدماءِ شبابِنا؟ الى متى يظلّون يعتاشون على الأثارات السلبية والازمات المتوالدة التي دمّرت البلاد وعرّضت العباد الى كلّ هذه الفتن العظيمة التي تُنذرُ بمخاطرَ أَكبر فأَكبر؟.

انّ متابعة القنوات الفضائيّة الإعلاميّة لساعاتٍ معدودةٍ سيشعر المرء بالشّحن الطّائفي والعُنصري والحزبي الضيّق الذي يدفع باتجاههِ المسؤولون والحلقات الضيّقة التي تلتفّ حولهُم، سواءً على صعيد الفِكرة او على صعيد الأسلوب في الطرح، المأزوم والمتشنّج والملغوم.

 ...ويظلّ المواطن المسكين يدفع ثمن مبارياتهم الإعلاميّة دماءٌ ودموعٌ وأيتامٌ وأرامل وثكالى ودمارٌ!. 

ارسال التعليق

Top